كلما أدركتُ أهميةَ الدورِ الذي يؤديه مصطلحا السلطةِ والدولةِ في العلاقاتِ التركيةِ–الكردية، واللذَين يُعَدّان من أكثرِ المصطلحاتِ التي نَبشتُ فيها وتعمقتُ عليها داخل إمرالي. فأدركتُ ضرورةَ إرجاعِ إجراءاتِ السلطةِ والدولةِ عموماً وفترتِهما ضمن العلاقاتِ التركيةِ–الكرديةِ خصوصاً (والتي تمتدُّ إلى ألفِ عامٍ تقريباً) إلى عهدِ الحثيين. وكلما تيَقَّنتُ أنّ هناك علاقاتٍ جيوسياسيةً وجيوستراتيجيةً وثيقةً بين ثقافاتِ السلطةِ والدولةِ في ميزوبوتاميا وبلادِ الأناضول، كنتُ ألاحظُ بكلِّ يُسرٍ أنّ الفصلَ بين الدولةِ والسلطةِ ليس بأسلوبٍ عاقلٍ أو معقول، لدى إسقاطِ ذلك على العلاقاتِ التركيةِ والكردية. لَم أَكُن أستسيغُ مصطلحَي السلطةِ والدولة، نظراً لصعودِهما على الضدِّ من مصطلحِ الديمقراطية. وكلما رأيتُ أنّ إخلاءَ ساحةِ الإدارةِ تماماً لقوى السلطةِ والدولة يُشَكِّلُ خسارةً جسيمةً للمجتمع، كلما كانت أهميةُ الديمقراطيةِ تُدرَكُ بنحوٍ أفضل. لكن، ولانتباهي إلى الانسدادِ الناجمِ عملياً عن الإنكارِ الفوضويِّ للسلطةِ والدولة، فقد أيقنتُ أنّ إنكارَ تشاطُرِ السلطةِ والدولةِ لا يتماشى والوقائعَ التاريخية، بالرغمِ من عدمِ تفضيلي لذلك كأسلوبِ حلّ. كانت الإدارةُ الديمقراطيةُ خيارَنا الأساسيّ. ولكن، كلما زادَ الإصرارُ على إنكارِ ثقافاتِ السلطةِ والدولةِ الواحديةِ المركزيةِ على مرِّ التاريخ، وزاد العنادُ في عدمِ استيعابِ جوانبِها التي يحقُّ مشاطرتُها اجتماعياً، وأدركتُ استحالةَ وصولي إلى حلولٍ عمليةٍ سليمةٍ نتيجةً لتلك المواقف؛ كلما أدركتُ بصورةٍ أفضل أهميةَ مصطلحَي “السلطةِ المشتركةِ” و”الدولةِ المشتركة”.
فإنّ أهميةَ الحلولِ المحليةِ فيما يتعلقُ بالديمقراطيةِ كانت تُدرَكُ بصورةٍ أفضل
لَطالما شوهِدَت العلاقاتُ الكثيفةُ والنماذجُ المشتركةُ المتعاقبةُ ضمن سياساتِ واستراتيجياتِ السلطةِ والدولةِ في بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا طيلةَ السياقِ التاريخيّ. كما فُضِّلَت نماذجُ مماثلةٌ في كافةِ المراحلِ الحرجةِ التي مرّت بها العلاقاتُ التركيةُ–الكردية. وقد جُرِّبَ هذا النموذجُ لآخِرِ مرةٍ في “حربِ التحريرِ الوطنية”. وقد تناولتُ هذه المواضيعَ بإسهابٍ في مرافعتي. فإلى جانبِ طرحِه على شكلِ أنموذجٍ نظريّ، فقد كان تحويلُه إلى مشروعِ حلولٍ عمليةٍ يتسمُ بقيمةٍ نفيسة، ليس على صعيدِ العلاقاتِ التركيةِ–الكرديةِ فحسب، بل ومن جهةِ حلِّ قضايا الشرقِ الأوسطِ المشابهةِ العقيمة. وأخصُّ أنه كان يتناغمُ إلى حدٍّ بعيدٍ مع الوقائعِ التاريخية، ويشملُ العناصرَ الأدنى إلى أهدافِ ومُثُلِ الجميعِ على صعيدِ الحلِّ العمليِّ في وجهِ الدوغمائيةِ الوضعيةِ التي فرضَتها الحداثةُ الرأسمالية. وعلى ضوءِ التطوراتِ التاريخية، كان لتركيزي على مصطلحاتِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ والأمةِ الديمقراطيةِ وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ تأثيرُه المهم فيما يتعلقُ بالسلطةِ والدولة. أما الحقيقةُ التاريخيّةُ الأخرى، فكانت ذاك التشخيصَ الذي يُدَلِّلُ على أنّ السلطةَ المركزيةَ واقعٌ استثنائيّ، بينما السلطةُ المحليةُ هي القاعدةُ الرائجة. بناءً عليه، وكلما أُدرِكَت بعينٍ صائبةٍ أواصرُ الرأسماليةِ مع طرحِ نموذجِ الدولةِ القوميةِ المركزيةِ كنموذجٍ وحيدٍ مطلقٍ في راهنِنا، وكلما شُرِحَ وجهُه الباطنيُّ ببساطة؛ فإنّ أهميةَ الحلولِ المحليةِ فيما يتعلقُ بالديمقراطيةِ كانت تُدرَكُ بصورةٍ أفضل.
كنتُ توصلتُ إلى عددٍ كبيرٍ من أشكالِ الوعيِ والمعارفِ الاصطلاحيةِ والنظرية
كما توصلتُ إلى نتائج مماثلةٍ بشأنِ العلاقةِ بين العنفِ والسلطةِ أيضاً. إذ كان جلياً تماماً استحالةُ أنْ يتجهَ خيارُنا نحو التحولِ إلى أمةٍ مركونةٍ إلى العنفِ والسلطة. حيث إنّ الحظيَ بالإمكانياتِ الاجتماعيةِ عن طريقِ العنفِ لا علاقةَ له بالاشتراكية، ما لَم يُؤَطَّرْ بمتطلباتِ الدفاعِ الذاتيِّ الاضطراريّ. ففيما عدا الدفاعِ الذاتيّ، ما كان لجميعِ أشكالِ العنفِ إلا أنْ تَسريَ داخل احتكاراتِ السلطةِ والاستغلال. وقد كان التقدُّمُ الاصطلاحيُّ في هذا المنحى يُضفي أهميةً عظمى على معالجةِ قضيةِ السلامِ بنحوٍ أكثر ثباتاً وتحصُّناً بالمعنى. وعليه، كنتُ توصلتُ إلى عددٍ كبيرٍ من أشكالِ الوعيِ والمعارفِ الاصطلاحيةِ والنظرية، التي ستشلُّ تأثيرَ اليافطاتِ المُلَفَّقةِ كـ”الانفصاليّ” أو “الإرهابيّ”، والتي أَطلَقَتها نُخَبُ السلطةِ والدولةِ التي تمارسُ الضغطَ على الكرد، بل وحتى على كافةِ الشرائحِ القابعةِ تحت براثنِ القمعِ والاستغلال. فكان الحوارُ مع مسؤولي الدولةِ تأسيساً على هذا الوعيِ الاصطلاحيِّ والنظريّ يغدو أكثرَ عطاءً، ويُؤَمِّنُ الإبداعَ اللازمَ لإيجادِ سُبُلِ الحلِّ العمليّ. ومثلما بالإمكانِ رصدُ الأمرِ في مختلفِ فصولِ ومُجَلَّداتِ المرافعة، فإنّ صياغةَ الحلولِ النظريةِ والعمليةِ كانت تصبحُ أمراً ممكناً بإسهامٍ من التطوراتِ الجاريةِ في حقلِ الحريةِ المجتمعيةِ ووعيِ الحقيقةِ في العديدِ من المجالاتِ الأخرى