لَم أتطرقْ كثيراً لحياتي الشخصيةِ في جميعِ مرافعاتي المدونةِ وحواراتي الشفهيةِ حتى الآن. وفيما عدا مشاكلي الصحيةِ العَرَضيةِ والعلاقة مع إدارةِ السجن، لَم أشرحْ كيفيةَ تحمُّلي للوحدةِ ومدى مقاومتي للعزلةِ التي أعَدَّها النظامُ بشكلٍ خاصٍّ وطَبَّقَها عليَّ فقط. أعتقدُ أنّ أكثرَ المواضيعِ التي يحفُّها الفضولُ هو تجاربي في الحياةِ حيالَ هذه الوحدةِ والثباتِ المطلقَين. لا زلتُ أتذكرُ أنّ أحدَ مُسِنّي القرية، والذي كان يُعتَبَر حكيماً فقيهاً، كان قد قالَ أثناءَ رصدِه لحركاتي وتصرفاتي عندما كنتُ طفلاً: “اجلسْ في مكانِك، أَفيكَ زئبق؟”. وكما هو معلوم، فالزئبقُ سائلٌ لزجٌ دفّاق. وأنا كنتُ كثيرَ الحركة. وعليه، فلو أنّ الآلهةَ الميثولوجيةَ فكَّرَت بمعاقبتي، لَما خطرَ ببالِها –على ما يبدو– عقاباً شديداً بقدرِ ما هو عليه تكبيلي إلى صخورِ إمرالي. مع ذلك، فهاأنا ذا أُكمِلُ عامي الثاني عشر في الحجرةِ الانفرادية.
كان ذهني وإرادتي هما اللذان سيُعَيِّنان مدى صمودي وثَباتي
إمرالي ذائعةُ الصيتِ تاريخياً بكونِها جزيرةً تُطَبَّقُ فيها الأحكامُ الصادرةُ بحقِّ مسؤولي الدولةِ رفيعي المستوى. مناخُها رطبٌ وقاسٍ للغاية، وأَقرَب إلى تحطيمِ بنيةِ الإنسانِ جسدياً. وبإضافةِ العزلةِ داخلَ حجرةٍ انفراديةٍ مغلقة، يزدادُ تأثيرُها المُهلِكُ على البنية. علاوةً على أني نُقِلتُ إلى الجزيرةِ وأنا على عتبةِ الكِبَرِ في السنّ. لقد أُبقِيَ عليَّ تحت مراقبةِ “قيادةِ القواتِ الخاصةِ” لمدةٍ طويلة. وأعتقدُ أنّ رقابةَ “وزارةِ العدلِ” هي الساريةُ خلال العامَين الأخيرَين. لَم تَكُن لديُّ أيةُ وسيلةِ تواصل، عدا بضعةٍ من الكتبِ والجرائدِ والمجلات، وإذاعةٍ بمحطةِ بثٍّ واحدة. وبطبيعةِ الحال، كان عالَمُ الاتصالِ لديَّ يتشكلُ من زيارةِ الأقاربِ لنصفِ ساعةٍ كلَّ عدةِ شهور، ومن لقاءِ المحامين الأسبوعيّ، الذي كثيراً ما تمَّ حظرُه بذريعةِ “سوءِ الأحوالِ الجوية”. لا شكّ أني لا أستصغرُ تأثيرَ ذلك في التواصل. ولكنه لا يُمكنُ أنْ يُشَكِّلَ علاقةً كافيةً للتحمل. وعليه، كان ذهني وإرادتي هما اللذان سيُعَيِّنان مدى صمودي وثَباتي.
كلَّ هذه التجاربِ لا تكفي لإيضاحِ ماهيةِ قوةِ التحملِ لديَّ داخل إمرالي
كنتُ قد هَيَّئت نفسي للوحدةِ مذ كنتُ طليقاً. وبِتُّ خبيراً في الترفعِ عن علاقاتِ الارتباطِ الوثيق، سواءٌ بالعائلةِ أو الأقاربِ أو الرفاقِ والأصدقاءِ المُقَرَّبين. ورغم أهميةِ العلاقةِ مع المرأة، إلا إنني تَجَرَّدتُ من هذه العلاقةِ أيضاً. أي أنني كنتُ بعكسِ “ناظم حكمت” تماماً. إذ تعهَّدتُ بألاّ أَكونَ أباً لطفل. ومنذ أنْ كنتُ في الدراسةِ الثانويةِ كان عنوانُ الموضوعِ الإنشائيِّ الذي نلتُ عشرَ علاماتٍ عليه من قِبَلِ أستاذِ الآدابِ كالتالي: “أنتَ طفلي الذي لن يولَدَ أبداً!”. يَبدو أني أردتُ بذلك الموضوعِ الإنشائيِّ تناوُلَ حياةِ طفولتي الشاقة. لكنّ كلَّ هذه التجاربِ لا تكفي لإيضاحِ ماهيةِ قوةِ التحملِ لديَّ داخل إمرالي.
فكيف كان لي أنْ أتحملَ الفُراقَ والبُعدَ عن إرادةِ الملايين
لن أمرَّ على الأمرِ دون ذكرِ نقطةٍ أخرى، ألا وهي أنّ المؤامرةَ المدبَّرةَ ضدي في سياقِ إمرالي، كانت من النوعِ الذي لا يُبقي حتى على وميضٍ من الأمل. إذ كان الحُكمُ عليَّ بالإعدامِ وإبقاءُ الحربِ النفسيةِ في الأجندةِ مدةً طويلةً يصبّان في هذا الهدف. فحتى أنا، لَم أَكُنْ أتصورُ في الأيامِ الأولى كيف سأَتحمَّلُ البقاءَ هنا. دَعكَ من مرورِ الأعوام، بل كنتُ لا أتصوُّرُ قضاء عامٍ واحدٍ فقط هنا. فتشكَّلَت لديّ فكرةٌ مفادُها: “كيف لكم أنْ تضعوا ملايين الناسِ في غرفةٍ ضيقة!”. وبصفتي قيادةً كرديةً وطنية، فبالفعلِ كنتُ قد جعلتُ نفسي، أو فُرِضَ عليَّ جعلُ نفسي تركيبةً جديدةً تحتوي الملايين في ظلِّ ظروفِ دخولي السجن. وهكذا كان الشعبُ أيضاً يراني. فبينما كان المرءُ غيرَ قادرٍ حتى على تحمُّلِ فُراقِه عن عائلتِه وأطفالِه، فكيف كان لي أنْ أتحملَ الفُراقَ والبُعدَ عن إرادةِ الملايين المُستَميتةِ على الاتحادِ والوحدةِ مدةً طويلةً قد لا تنتهي بلقاء!
لَم يَكونوا يعطونني حتى رسائلَ أبناءِ الشعبِ المدوَّنةِ في بضعةِ سطور
لَم يَكونوا يعطونني حتى رسائلَ أبناءِ الشعبِ المدوَّنةِ في بضعةِ سطور. وفيما عدا بعضِ رسائلِ الرفاقِ المعتَقَلين النادرةِ والخاضعةِ للرقابةِ المشدّدة، والتي لا يُعطى القِسمُ الأكبرُ منها؛ لَم أَستَلمْ حتى الآن أيةَ رسالةٍ ممن هو خارجَ السجن، إلا في بعضِ الحالاتِ الاستثنائية. كما لَم أستطعْ إرسالَ أيةِ رسالةٍ إلى خارجِ السجن. كلُّ هذه الأمورِ قد تشرحُ نسبياً الوضعَ الناجمَ عن التجريدِ والعزلة. ولكن، كان ثمة جوانب خاصة بموقعي. إذ كنتُ بمثابةِ الشخصِ الذي حثَّ الكردَ على إنجازِ الكثيرِ من “البدايات”. وجميعُ تلك الانطلاقاتِ المنتصفةِ كانت خطواتٍ لا بدَّ منها على دربِ الحياةِ الحرة. فقد حفّزتُ الجميعَ من أبناءِ شعبِنا على إنجازِ الانطلاقاتِ الأولى بخصوصِ كافةِ المجالاتِ الاجتماعية. لكني لَم أتمكنْ من تسليمِ أيٍّ منها لأيادٍ أمينةٍ أو تركِها في ظروفٍ مناسِبة. تَخيَّلوا حالةَ عاشقٍ حققَ انطلاقتَه اللازمةَ لعشقِه الأول، ولكنّ يدَيه بقيَتا عالقتَين في الهواء، في الحينِ الذي كانت نارُ الحبِّ تضرمُ فؤادَه. وهكذا كانت انطلاقاتُ الحريةِ التي أنجزتُها في الميادينِ الاجتماعية قد بقيَت عالقةً في الهواء. إذ كدتُ أذوبُ من شدةِ الانهماكِ بميادينِ الحريةِ المجتمعية، بحيث لَم أَتركْ ورائي شيئاً اسمُه الـ”أنا”. وقد ابتدأَت فترةُ السجنِ في هكذا لحظةٍ على الصعيدِ الاجتماعيّ.