القائد عبدالله أوجلان: حول حياة السجن في جزيرة إمرالي _5
ما مِن جانبٍ يستعصي عليَّ تحمُّلُه داخل إمرالي، فيما خلا الأسبابِ الفيزيائيةِ التي تُسبِّبُ مشاكل صحية. فقوةُ المعنوياتِ والوعيِ والإرادةِ لديَّ لَم تتراجعْ بتاتاً عما كانت عليه في السابق، بل وباتت أكثرَ صفاءً، واقتاتَت من الجماليات، واغتَنَت بجوانبِ التقدمِ البهيّ. ومع الارتقاءِ بمستوى شرحِ الحقائقِ الاجتماعيةِ بواسطةِ العلمِ والفلسفةِ والجماليات، تزدادُ إمكانياتُ الحياةِ الأكثرَ صواباً وفضيلةً وجمالاً. إني أُفَضِّلُ العيشَ لوحدي في حُجرتي الانفراديةِ حتى آخِرِ نفَس، على أنْ أعيشَ مع الناسِ الذين ضَلَّلَتهم الحداثةُ الرأسماليةُ عن درب الحقيقة.
لستُ شخصاً مَيّالاً كثيراً للخيال
السؤالُ الذي يدورُ في خُلدِ شعبِنا ارتباطاً بحياتي في إمرالي هو: أين وكيف سأعيشُ في حالِ خروجي من السجن. لستُ شخصاً مَيّالاً كثيراً للخيال. فالكلُّ يعلَمُ يقيناً أني صاحبُ طرازٍ في الحياة، يُسَمى بالواقعيةِ الثورية. وإذا تمَّ الإمعانُ في نهجِ حياتي الماضيةِ بدءاً من أيامِ الطفولة، بدلاً من النظرِ إلى حياتي ما بعدَ الخروجِ من السجن؛ فسيجدُ جواباً أفضل على مثلِ تلك الأسئلة. ذلك أنّ “التمرداتِ الأولى” التي أبدَيتُها تجاه سيادةِ العائلةِ مذ كنتُ تحت سنِّ العاشرة تتسمُ بأَماراتٍ مهمةٍ في هذا المضمار. فمنذ ذلك الحين كنتُ متمرداً وحيداً. لقد حاولتُ في المرافعةِ بين الحينِ والآخرِ سردَ محاولاتِ اعتراضي على مجتمعَي القريةِ والمدينة. وباستطاعةِ المعنيين العثورُ ضمنها على الأجوبةِ اللازمةِ لأسئلتِهم.
ومَن ينضمُّ إليَّ أو يطمعُ في الاستفادةِ مني دون فهمي كشخصيةٍ وقيادة، فقد يشعرُ بالإحباط
سأَسردُ الأمرَ بإيجاز: الحياةُ بالنسبةِ لي غيرُ ممكنةٍ إلا عندما تُعاشُ حرة. وبشرحِ سؤالِ: “ما هي الحياةُ الحرة؟”، سعيتُ إلى رصفِ أرضيةِ مرافعتي الأخيرةِ هذه، والمؤلَّفةِ من خمسةِ مجلَّدات. فالحياةُ المجرَّدةُ من الأخلاقِ والعدالةِ والسياسة، حياةٌ ينبغي ألاّ تُعاشَ على صعيدِ المجتمعية. تُمَكِّنُ المدنيةُ عموماً والحداثةُ الرأسماليةُ خصوصاً من العيشِ الخاطئِ بحَيَواتٍ منغمسةٍ في شتى أشكالِ العبودية، ومليئةٍ بالرياء، ومشحونةٍ بالديماغوجيةِ والفردية. وتَعملُ على إقناعِ الغيرِ بها من خلالِ احتكاراتِ القمعِ والاستغلالِ الأيديولوجيةِ التي تُكَوِّنُها. وبهذا المنوال تظهرُ الأحداثُ المسماةُ بالقضايا الاجتماعية. يتحتمُ على كلِّ شخصٍ يَنعتُ نفسَه بالثوريّ، سواء أَسمَيناه بالاشتراكيِّ أو التحرريِّ أو الديمقراطيِّ أو الشيوعيّ؛ أنْ يعترضَ ويتمردَ على المدنيةِ المرتكزةِ إلى القمعِ والاستغلالِ المفرطَين من قِبَلِ الطبقةِ والمدينةِ والسلطة، وعلى أنماطِ الحياةِ السائدةِ في العهودِ الحديثة. إذ لا يُمكنُ بأيِّ وجهٍ آخر تحقيقُ وبالتالي عيشُ حياةٍ عادلةٍ وحرةٍ وديمقراطيةٍ واجتماعية. بل ستُعاشُ عندئذ حَيَواتٌ مليئةٌ بالكذبِ والأخطاءِ والسيئاتِ والقُبح. وهذا ما يُسمى بنمطِ الحياةِ الخاطئةِ ذاتِ الأرضيةِ غيرِ السليمة. وعليه، يتوجبُ إدراكُ جهودي الحثيثةِ مدى حياتي، بشأنِ تحويلِ نمطِ الحياةِ هذا إلى إشكالية، أو بصددِ رفضي إياه كونَه إشكاليٌّ من الأصل. وإلا، فمن المستحيلِ فهمي، سواء كشخصٍ أم كقائد. ومَن ينضمُّ إليَّ أو يطمعُ في الاستفادةِ مني دون فهمي كشخصيةٍ وقيادة، فقد يشعرُ بالإحباط. ذلك أنّ الفهمَ الصحيحَ وإبداءَ الانضمامِ القويمِ مشكلةٌ اجتماعية، لا شخصية.
كيف نعيشُ مع المرأة
السؤالُ الآخرُ الذي يحفُّه الفضولُ ارتباطاً بذلك هو نمطُ الحياةِ مع المرأة. وقد تطرقتُ بين الفينةِ والأخرى في كافةِ مجلداتِ مرافعتي إلى سؤالِ: كيف نعيشُ مع المرأة؟ أخصُّ بالذِّكرِ الأهميةَ الفائقةَ التي يتحلى بها العيشُ مع المرأةِ في كنفِ الحداثة. فهي قضيةٌ لا تُحَلُّ بطلبِ يدِ المرأةِ أو البحثِ عنها، أو بخداعِها أو العيشِ معها في البيتِ “الخاصِّ” أو “العامّ”، أو بمشاركتِها الحياةَ بإنجابِ الأطفالِ أو من دونِهم. فلأجلِ حلِّ هذه القضيةِ التي تحتلُّ الزاويةَ الرُّكنَ في قلبِ وعقلِ القضايا الاجتماعية، يتعينُ العملُ أساساً بالمقاربةِ العلميةِ والفلسفيةِ والأخلاقيةِ والجمالية. فالحياةُ النديةُ الحرةُ مع المرأةِ في عصرِنا، أي في ظلِّ ظروفِ الحداثةِ الرأسمالية، تستلزمُ التحلي بروحِ المسؤوليةِ العليا وبالمقاربةِ العلميّةِ والفلسفيّةِ والأخلاقيّةِ والجماليّةِ لها. فمن دونِ معرفةِ الوضعِ الذي أُقحِمَت فيه المرأةُ طيلةَ تاريخِ المدنيةِ وفي العصرِ الحديث، ومن دونِ الاستطاعةِ على الدنوِّ الأخلاقيِّ والجماليِّ منها؛ فأيّما كان شكلُ الوحدةِ المُجَرَّبةِ معها، فإنّ كلَّ أنواعِ الحياةِ معها ستنتهي –دو بُدّ– بالأخطاءِ واللاأخلاقِ والقُبحِ والشناعة.
وإذ قُرِئَ الصراعُ الذي خضتُه واستُوعِبَت النتائجُ المترتبةُ عليه، فسوف تُعاشُ الحياةُ مع المرأةِ بصورةٍ أكثرَ أخلاقيةً وجمالية
إنّ عدم تبذيرِ الحياةِ مرهونٌ أولاً بتحقيقِ الأشكالِ الصحيحةِ والأخلاقيةِ والجماليةِ من الحياةِ مع المرأة. كما إنّ تحليلَ هويةِ المرأة (التي جُرِّبَت عليها ومُثِّلَت في شخصيتِها كافةُ ضروبِ العبودية) ومشاركةَ دعواها من أجلِ الحريةِ والمساواةِ كرفيقِ دربٍ في الحياة، يُشَكِّلُ الشرطَ الأوليَّ للتحولِ إلى رجلٍ سليمٍ وأخلاقيٍّ وجميل. ولَئِنْ قُرِئَت السطورُ المعنيةُ بذلك في المرافعةِ بعينٍ صائبة، فستُدرَكُ بنحوٍ أفضل دوافعُ إيلائي الأهميةَ الكبرى لهكذا نمطٍ من الحياة وجعلي إياه مبدأً ثابتاً. حيث إنّ أفظعَ أشكالِ التردي الأخلاقيِّ والشناعةِ والقُبحِ تتولدُ عن نمطِ الحياةِ المنغمسةِ في رجعيةِ وبدائيةِ مفهومِ “التمكن من المرأة” الجنسويّ (شكل العلاقة الذي يشَوِّهُ حتى الميولَ الجنسيةَ البيولوجية)، والذي تفرضُه أخلاقُ المدنيةِ المتمحورةِ حول السلطةِ في كنفِ الحداثة. وإذ قُرِئَ الصراعُ الذي خضتُه مقابل ذلك، واستُوعِبَت النتائجُ المترتبةُ عليه بمنوالٍ صحيح؛ فسوف تُعاشُ الحياةُ مع المرأةِ بصورةٍ أكثرَ أخلاقيةً وجمالية. لذا، ينبغي على كلِّ رجلٍ وامرأةٍ يتحملون عبءَ المسؤوليةِ في هذا السياق (ونخصُّ المرأةَ هنا) أنْ يَرتَقوا دوماً بمقارباتِهم وممارساتِهم العمليةِ في المجالاتِ العلميةِ والفلسفيةِ والأخلاقيةِ والجمالية، وأنْ يُنَظِّموها ويَعملوا على إحيائِها في ذهنيةِ الأمةِ الديمقراطيةِ ومؤسساتِها؛ وذلك كي يُعَزِّزوا من شأنِهم، وينظموا أنفسَهم، ويَحظَوا بمستوياتٍ متوازيةٍ ومتكافئةٍ في مختلفِ الحقولِ الاجتماعية.
سأَكسَبُ الحياةَ، وسأَتشاطَرُها مع الجميع
لا يُمكنُ عيشُ الحياةِ البشريةِ إلا بنحوٍ مجتمعيٍّ حرٍّ وديمقراطيٍّ ومفعمٍ بالمساواةِ ضمن الاختلاف، سواء كان المرءُ طليقاً أم سجيناً، وسواءٌ تواجدَ في رحمِ أمِّه أم في أيةِ لحظةٍ أو مكانٍ داخل الفضاءِ المترامي. وكلُّ أشكالِ الحياةِ الأخرى هي شاذة، وبالتالي مَرَضِية. ولكي تُعادَ الحياةُ إلى مجراها الصحيحِ وتُداوى فتتعافى، ينبغي خوضُ كفاحٍ دؤوبٍ بشتى أنواعِ القولِ والعملِ الاجتماعيّ، بما في ذلك إنجازُ الثورة. وينبغي أنْ تَتكَوَّنَ في سبيلِ ذلك الذهنيةُ والإرادةُ اللازمتان أخلاقياً وجمالياً وفلسفياً وعلمياً. إذن، والحالُ هذه، وفي حالِ خروجي من السجن، فأينما كان مكاني أو اللحظةُ التي أحياها، فإني حُكماً سأواظبُ حتى آخِرِ رمقٍ على خوضِ الكفاحِ المتواصلِ بشتى أنماطِ القولِ والعمل من أجل المجتمعيةِ التي جهدتُ لتحقيقِ الانتماءِ إليها؛ ومن أجلِ الكردِ الذين يَحيَون حقيقتَها الأكثرَ مأساوية، وتحوُّلِهم الوطنيِّ الديمقراطيّ، الذي هو سبيلُهم إلى الحلِّ والتحرر؛ ومن أجلِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطية”، الذي هو سبيلُ الحلِّ والخلاصِ بالنسبةِ لشعوبِ الجوارِ أولاً ولكافةِ شعوبِ الشرقِ الأوسطِ التي يُعَدُّ الكردُ جزءاً منها؛ وكذلك من أجلِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ العالمية”، الذي هو سبيلُ الحلِّ والخلاصِ بالنسبةِ إلى جميعِ شعوبِ العالَمِ التي تُعَدُّ شعوبُ الشرقِ الأوسطِ جزءاً لا يتجزأُ منها. وسأثابرُ على مسيرتي اعتماداً على شخصيةِ الحقيقةِ التي نالَت نصيباً وفيراً من الحقيقةِ لديّ، ومتحصناً بالقوةِ الأخلاقيةِ والجماليةِ والفلسفيةِ والعلميةِ اللازمةِ لذلك؛ وسأَكسَبُ الحياةَ بناءً على ذلك، وسأَتشاطَرُها مع الجميع.