في الحقيقة، حتى لو كانت الظروفُ الخارجيةُ وظروفُ الدولةِ وإدارةِ السجن، بل وحتى تجهيزاتُ السجنِ خاصةً بالسرايا؛ فإنّ كلَّ ذلك لا يَكفي لإيضاحِ كيفيةِ تَحَمُّلِ العزلةِ المفروضةِ عليَّ بنحوٍ خاصّ. إذ ينبغي عدم البحثِ عن العواملِ الأساسيةِ في الظروفِ المحيطةِ أو في مقارباتِ الدولة. بل المُعَيِّنُ هنا هو إقناعي لنفسي بظروفِ العزلة. إذ كان عليَّ أنْ أتحصنَ بحججٍ عظيمةٍ تُمَكِّنُني من تحمُّلِ العزلةِ ومن إثباتِ قدرتي على عيشِ حياةٍ عظيمةٍ حتى ضمن ظروفِ العزلة. ولدى التفكيرِ وفق ذلك، فعليَّ أولاً أنْ أتحدثَ عن تطوُّرَين اصطلاحيَّين:
إذ عليكَ بتوعيةِ نفسِكَ باستحالةِ العيشِ إلا ارتباطاً بمجتمعٍ ما
كان التطورُ الأولُ يتعلقُ بالوضعِ الاجتماعيِّ للكرد. إذ كنتُ أفكرُ على النحوِ التالي: لكي أرغبَ بحياةٍ حرةٍ لي، فيجب أنْ يَكُونَ المجتمع الذي أنتمي إليه حراً. أو بالأحرى، ما كان للحريةِ الفرديةِ أنْ تتحققَ من دونِ المجتمع. وسوسيولوجياً، كانت حريةُ الفردِ مرتبطةً كلياً بمستوى حريةِ المجتمع. ولدى إسقاطِ هذه الفرضيةِ على المجتمعِ الكرديّ، فإنّ جوهرَ نظرتي كان يشيرُ إلى أنّ حياةَ الكردِ لا تختلفُ عن سجنٍ مفتوحٍ حالكِ السواد. إني لا أسردُ هذا الإدراكَ كتعبيرٍ أدبيّ. بل أَصوغُه كحقيقةٍ تَعكسُ الواقعَ كما هو. ثانيهما؛ كان هناك حاجةٌ للالتزامِ بمبدأٍ أخلاقيٍّ ملموسٍ للتمكنِ من الفهمِ الكاملِ للمصطلح. إذ عليكَ بتوعيةِ نفسِكَ باستحالةِ العيشِ إلا ارتباطاً بمجتمعٍ ما. ذلك أنّ أهمَّ وعيٍ خلقَته الحداثةُ هي إقناعُها الفردَ بإمكانيةِ عيشِه من دونِ أيةِ أواصر اجتماعية. لكنّ محاولةَ الإقناعِ هذه مجردُ سردٍ زائف. إذ ما من حياةٍ كهذه في واقعِ الأمر. ولكنْ يجري الإقناعُ بها كواقعٍ افتراضيّ. والحرمانُ من هذا المبدأِ تعبيرٌ عن تَردّي الأخلاق. بمعنى آخر، فالحقيقةُ والأخلاقُ متداخلتان. والفرديةُ الليبراليةُ غيرُ ممكنةٍ إلا بتردّي المجتمعِ الأخلاقيِّ وبَترِ عُراه مع وعيِ الحقيقة. أما عرضُ تلك الفرديةِ في عصرِنا على أنها شكلُ الحياةِ السائد، فلا يثبِتُ مصداقيتَها. تماماً مثلما يستحيلُ تكريسُ النظامِ الرأسماليِّ (الذي هي ناطقةٌ باسمِه) إلا بانهيارِ المجتمعِ الأخلاقيِّ وبافتقادِه لوعيِ الحقيقة. لقد توصلتُ إلى هذا الحُكمِ نتيجةً لتعمقي على الظاهرةِ الكرديةِ وقضيتِها.
فحالةُ العبوديةِ المطلقةِ لدى الكردِ قد أحجَمَتني بنحوٍ حاسمٍ عن تَصَوُّرِ أنّ “الحياةَ الحرةَ ممكنة”
يتحتمُ فهمُ جانبٍ ثنائيٍّ في حياتي على أكملِ صورة. ألا وهو الهروبُ من الكردايتية، والتوجُّهُ صوبَها من ناحيةٍ معاكِسة. وكضرورةٍ من ضروراتِ الإبادةِ الثقافية، كانت الظروفُ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ جاهزةً لأجلِ الهروبِ من الكردايتية، بل وتُحَفِّزُ على ذلك. وهنا بالتحديدِ تدخلُ المبادئُ الأخلاقيةُ جدولَ الأعمال. فإلى أيِّ مدى يُعَدُّ الهروبُ من المجتمعِ المُنتَمى إليه أمراً صحيحاً أو حسناً في سبيلِ الخلاصِ الشخصيّ؟ في الواقع، كان وصولي السنةَ الأخيرةَ من الدراسةِ الجامعيةِ يعني حينذاك ضمانَ خلاصي الشخصيِّ أيضاً. والشروعُ أو الجزمُ بالاهتمامِ بالكردايتيةِ في تلك الفترةِ كان دلالةً على العودةِ إلى المبادئِ الأخلاقية. وبالمعنى الاشتراكيّ، كان من الواردِ أنْ يَكُونَ ذاك المجتمعُ مجتمعاً آخر غيرَ المجتمعِ الكرديّ. مع ذلك، كان عليكَ الالتزام حتماً بظاهرةٍ اجتماعية، كي تتحلى بكينونةِ الفردِ الأخلاقيّ. لقد تجلّى مدى استحالةِ أنْ أَكُونَ فرداً لاأخلاقياً. إني أستخدمُ مصطلحَ الأخلاقِ مؤَطَّراً بالأخلاقيات، أي بمعنى نظريةِ الأخلاق. وإلا، فإني لا أتحدثُ عن سلوكياتٍ أخلاقيةٍ بدائية، كالعيشِ مدى العمرِ مرتبطاً بعائلةٍ أو بمجموعةٍ ما. حيث إنّ الارتباطَ بالظاهرةِ الكرديةِ وبحالتِها الإشكاليةِ كان غيرَ ممكنٍ إلا بموجبِ نظريةِ الأخلاق. فحالةُ العبوديةِ المطلقةِ لدى الكردِ قد أحجَمَتني بنحوٍ حاسمٍ عن تَصَوُّرِ أنّ “الحياةَ الحرةَ ممكنة”. ولا تزالُ الحالُ على ذلك. لقد اقتَنَعتُ بأنه ما مِن عالَمٍ حرٍّ أستطيعُ العيشَ فيه. وقمتُ مطَوَّلاً بالمقارنةِ بين السجنَين الداخليِّ والخارجيّ، وانتبَهتُ في نهايةِ المآلِ إلى أنّ حالةَ الأَسْرِ في الخارجِ أكثرَ خطورةً على الفرد. بمعنى آخر، فقناعةُ الفردِ الكرديِّ بأنه حرٌّ خارجَ السجن، هي محضُ خداع. فالحياةُ في ظلِّ الرياءِ والضلالِ هي حياةٌ خاسرةٌ ومشحونةٌ بالخيانة.
فالحياةُ بالنسبةِ إلى الكرديِّ الأخلاقيِّ والأبيِّ غيرُ ممكنةٍ إلا بتحوُّلِه إلى مناضلٍ حثيثٍ لأجلِ الوجودِ والحرية
النتيجةُ التي استخلصتُها هي أنّ العيشَ خارجَ السجنِ ممكنٌ بشرطٍ واحدٍ فقط؛ ألا وهو أنْ يخوضَ الكردُ (والأتراكُ الكادحون القابعون تحت نيرِ الرأسمالية) كفاحاً دؤوباً وعلى مدارِ الساعة لأجلِ الوجودِ ونيلِ الحريةِ. بقولٍ آخر، فالحياةُ بالنسبةِ إلى الكرديِّ الأخلاقيِّ والأبيِّ غيرُ ممكنةٍ إلا بتحوُّلِه إلى مناضلٍ حثيثٍ لأجلِ الوجودِ والحرية، وعلى مدى أربعٍ وعشرين ساعة في اليوم. ولدى قياسِ حياتي خارجَ السجنِ إلى هذا المبدأ، كنتُ أَقنَعُ بأني عشتُ بنحوٍ أخلاقيّ. أما أنْ يَكُونَ الموتُ أو السجنُ ثمنَ ذلك، فهو من دواعي الصراعِ والحرب. ونظراً لأنّ الحياةَ بلا نضالٍ أو صراعٍ هي محضُ زيفٍ وخنوع، فإنّ الترحيبَ بالموتِ أو تَحَمُّلَ الاعتقالِ يغدو أمراً كائناً في طبيعةِ الأمرِ أو الممارسة. بالمقابل، فإنّ عدمَ تحمُّلِ شروطِ السجنِ يخالفُ طبيعةَ حِجَجي في الحياة. فكيفما يستحيلُ الهروبُ من النضالِ أو الصراعِ في سبيلِ الوجودِ والحرية، فمن المحالِ أيضاً الفرارُ من السجن، لأنه –هو أيضاً– من دواعي الحياةِ الحرةِ التي نكافحُ في سبيلِها. وعندما يَكُونُ الكردُ موضوعَ الحديث، وإذا كنتَ غيرَ متأثرٍ بالرأسماليةِ أو الليبراليةِ أو بالتصوفِ الدينيِّ المنحرف؛ فما مِن عالَمٍ يُمكِنك العيشُ فيه وما مِن شيءٍ بمقدورِك فعلُه خارجَ السجن، فيما عدا الصراعِ لأجلِ حياةٍ أخلاقيةٍ مشرِّفة. ولدى إمعاني في حياةِ الرفاقِ المعتَقَلين على ضوءِ هذا المصطلح، رأيتُ أنهم يعانون من خداعٍ جادّ. فقد اقتَنَعوا أو أُقنِعوا بإمكانيةِ العيشِ بحريةٍ خارجَ السجن. ولدى تحليلِ الموضوعِ سوسيولوجياً، فسنُدرِكُ أنّ الدورَ الأساسيَّ للمعتَقَلاتِ هو خلقُ حنينٍ زائفٍ إلى الحريةِ داخل الفرد. فقد شُيِّدَت السجونُ بعنايةٍ في ظلِّ الحداثة لهذا الغرض. بالتالي، فإما أنّ الناسَ ارتَضَوا لأنفسِهم العيشَ بزيفٍ ورياءٍ بعدَ إطلاقِ سراحِهم، فيغدو التعويلُ على سلوكِهم حياةً ثوريةً مُشرِّفةً أو أخلاقيةً مجردَ وهمٍ لا طائلَ منه؛ أو أنهم سينجحون في تلبيةِ مطاليبِ النضالِ الاجتماعيِّ بنضوجٍ بارزٍ أفرَزَته فترةُ الاعتقال